سورة يونس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


قلت: الضمير في {منه} يعود على القرآن، وإن لم يتقدم ذكره؛ لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: وما تتلو شيئاً من القرآن، وقيل: يعود على الشأن، والأول أرجح؛ لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء. قاله ابن جزي. قلت: والأحسن أن يعود على الله تعالى؛ لتقدم ذكره قبل، ومن قرأ: {ولا أصغر}، {ولا أكبر} بالفتح فعطف على {مثقال} ممنوع من الصرف، أو مبني مع لا، ومن قرأ بالرفع فعطف على موضعه، أو مبتدأ، و{إلا في كتاب}: خبر.
يقول الحق جل جلاله: {وما تكون في شأنٍ} أي: أمر من الأمور، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وجميع الخلق، ولذلك قال في آخرها. {ولا تعملون من عمل}، ومعنى الآية: إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، {وما تتلو منه من قرآنٍ} أي: وما تتلو شيئاً من القرآن، أو وما تتلو من الله من قرآن، أي: تأخذه عنه. {ولا تعملون من عملٍ} أي عمل كان، وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، ولذلك ذكر الحق تعالى، حيث خص بالذكر ما فيه فخامة وتعظيم، وذكر حيث عمم ما يتناول الجليل والحقير، أي: لا تعلمون شيئاً {إلا كنا عليكم شهوداً}: رقباء مطلعين عليه ظاهراً وباطناً، {إذ تُفيضون فيه}: حين تخوضون فيه وتندفعون إليه، يقال: أفاض الرجل في الأمر: إذا أخذ فيه بجد واندفع إليه، ومنه {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198]، {وما يَعْزُبُ عن ربك} أي: ما يغيب عنه {مثقال ذرةٍ}: ما يوازن نملة، {في الأرض ولا في السماء} والمراد: لا يغيب عنه شيء في الوجود بأسره، وخصهما لأن العامة لا تعرف غيرهما. قال في الكشاف: فإن قلت: لِمَ قدَّم هنا الأرض بخلاف سورة سبأ؟ فالجواب: أن السماء قدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادةُ على أهل الأرض. اهـ. {ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين} أي: اللوح المحفوظ، أو علمه تعالى المحيط، المُبيّن للأشياء على ما هي عليه.
الإشارة: هذه الآية وأمثالها هي أصل المراقبة عند القوم، وهي على ثلاثة أقسام: مراقبة الظواهر، ومراقبة القلوب، ومراقبة السرائر. فالأولى للعوام، والثانية للخواص، والثالثة لخواص الخواص.
فأما مراقبة الظواهر: فهي اعتقاد العبد أن الله يراه، ومطلع عليه في كل مكان، فينتجُ له الحياء من الله، فيستحيي أن يسيء الأدب معه وهو بين يديه، وفي بعض الأخبار القدسية: «إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟».
وقال عليه الصلاة والسلام: «أفضل الناس إيماناً من يعلم أن الله معه في كل مكان» أو كما قال صلى الله عليه وسلم: ورُوي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرَّ براعي غنم، فقال له: أعطنا شاة من غنمك، فقال له: ليست لي. فقال له: لصاحبها أكلها الذئب، فقال له الراعي: وأين الله؟!. ورُويَ أن رجلاً خلا بجارية فراودها على المعصية، وقال لها: لا ترانا إلا الكواكب، فقال له: وأين مُكوكُبها؟.
وأما مراقبة القلوب فهي: تحقيق العبد أن الله مطلع على قلبه، فيستحي منه أن يجول فيما لا يعني، أو يدبر ما لا يفيد ولا يجدي، أو يهم بسوء أدب؛ فإنْ جال في ذلك استغفر وتاب.
وأما مراقبة السرائر فهي: كشف الحجاب عن الروح، حتى ترى الله أقرب إليها من كل شيء، فتستحي أن تجول فيما سواه من المحسوسات، فإن فعلت بادرت إلى التوبة والاستغفار، فالتوبة لا تفارق أهل المراقبة مطلقاً، وقد تقدم في أول سورة النساء بعض الكلام على المراقبة، فمن لم يُحْكِم أمر المراقبة، لم يذق أسرار المشاهدة.


قلت: {الذين آمنوا}: صفة للأولياء، أو منصوب على المدح، أو مرفوع به على تقدير: هم أو مبتدأ، و{لهم البشرى}: خبر،
يقول الحق جل جلاله: {ألا إن أولياءَ الله} الذين يتولونه بالطاعة، وهو يتولاهم بالكرامة {لا خوفٌ عليهم} من لحوق مكروه، {ولا هم يحزنون} بفوات مأمول.
ثم فسرهم بقوله: {الذين آمنوا وكانوا يتقون}، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو ولي أعني الولاية العامة وسيأتي بقية الكلام في الإشارة إن شاء الله، {لهم البُشْرَى في الحياةِ الدنيا} وهو ما بشّر به المتقين في كتابه، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الحفظ والعز والكفاية، والنصر في الدنيا وما يثيبهم به في الآخرة، أو ما يريهم من الرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له. رُوي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو محبة الناس للرجل الصالح، أو ما يتحفهم به من المكاشفات، أو التوفيق لأنواع الطاعات، أو بشرى الملائكة عند النزع، أو رؤية المقعد قبل خروج الروح، {وفي الآخرة} هي الجنة أو تلقي الملائكة إياهم عند الحشر بالبشرى والكرامة.
{لا تبديل لكلماتِ الله} أي: لا تغيير لأقواله، ولا اختلاف لمواعيده، واستدل ابن عمر بالآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن يُغيره، {ذلك هو الفوز العظيم} الإشارة إلى كونهم مبشَّرين في الدارين، أو لانتفاء الخوف والحزن عنهم مع ما بُشروا به، والله تعالى أعلم.
الإشارة: الولاية على قسمين: ولاية عامة، وولاية عرفية خاصة، فالولاية العامة، هي التي ذكرها الحق تعالى: فكل من حقق الإيمان والتقوى؛ فله من الولاية على قدر ما حصًّل منها، والولاية الخاصة خاصة بأهل الفناء والبقاء، الجامعين بين الحقيقة والشريعة، بين الجذب والسلوك مع الزهد التام والمحبة الكاملة، وصحبة من تحققت ولايته. فقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقال: «الذينَ نَظَرُوا إلى بَاطِنِ الدنْيَا، حينَ نَظََرَ النَّاسُ إلى ظََاهِرهَا، واهْتَمُّوا بآجِلِ الدُّنيا حِين اهتَمَّ النَّاسُ بعَاجِلِها؛ فأمَاتُوا منها ما خَشوا أن يُمِيتهم، وتركوا منها ما عملوا أن سيتركُهُم، فما عارضهم من نائلها عارض إلا رفضوه، ولا خادعهم من رفعتها خادعٍ إلا وضعوه، خلقتِ الدنيا في قلوبهم فما يجددونها وخربت بينهم فما يعمرونها، وماتت في صدروهم فما يُحْيونها بل يهدمُونها، فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، نظروا إلى أهلها صرْعى قد حلَّت بهم المَثُلات، فما يرون أماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يجدون».
وفي حديث آخر: قيل: يا رسول الله مَنْ أولياء الله؟ قال: «المتحابَّون في الله» وقال القشيري رضي الله عنه: علامة الولي ثلاث: شغله بالله، وفراره إلى الله، وهمه الله. اهـ.
وقال أبو سعيد الخراز رضي الله عنه: إذا أراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب ذكره، فإذا اشتد ذكره فتح عليه باب القرب، ثم رُفع إلى مجلس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا عاين ذلك بقي بلا هو، فحينئذٍ يفني نفسه ويبرأ من دعاويها. اهـ.
فأنت ترى كيف جعل الفناء هو نهاية السير والوصول إلى الولاية، فَمن لا فناء له لا محبة له، ومن لا محبة له لا ولاية له. وإلى ذلك أشار ابن الفارض رضي الله عنه، في تائيته بقوله:
فلمْ تهْوَني ما لم تكنْ فيّ فانِيّا *** ولم تَفنَ ما لَمْ تَجتَل فيكَ صُورتي
وقوله تعالى: {الذين أمنوا} أي: إيمان الخصوص، {وكانوا يتقون} ما سوى الله؛ فلا يطمئنون إلى شيء سواه، {لهم البشرى في الحياة الدنيا}، حلاوة الذوق والوجدان، مع مقام الشهود والعيان، {وفي الآخرة} بإدراك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر ببال من المعارف والأسرار، فمن أدرك هذا فليوطن نفسه على الإنكار.


قلت: {إن}: استئناف، ومن قرأ بالفتح فعلى إسقاط لام العلة.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {ولا يحزنُكَ قولُهم} في جانب الربوبية، أو جانبك بالطعن والشتم والتهديد، فالعاقبة لك بالنصر والعز؛ فإن الله يُعز أولياءه، {إِنَّ العزَّة لله جميعاً} أي: إن الغلبة لله جميعاً، لا يملك غيرُه منها شيئاً، فهو يقهرهم وينصرك عليهم، {هو السميع} لأقوالهم، {العليم} بمكائدهم فيجازيهم عليها.
الإشارة: الداخل على الله منكور، فكل من رام الخصوصية فليعوِّلْ على الطعن والإنكار، وليتسلَّ بما تسلى به النبي المختار، ولينتظر العز والنصر من الواحد القهار، فإن الأمر كله بيده.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13